كتبه: د.بدر سالم المرواني
في خضم عالم يتغير على إيقاع متسارع، بات من الضروري أن يتم إعادة النظر وفق دراسة واستشراف وتخطيط في الأسس التي يقوم عليها تعليم الإنسان في سنواته الأولى. فالمناهج الدراسية تغيرت بل تطورت وفق التحولات المتسارعة، فهي لم تعد خزائن للمعرفة المنسقة تحفظ فيها المعطيات وتصاغ فيها القواعد ثم تُقدَّم للناشئة. بل باتت تتعامل مع عقولًا مرنة، تملك القدرة على التفكير، لا مجرد التذكر.
ومن هنا تؤكد منظمة اليونسكو في تقريرها السنوي لعام 2021 أن المقررات التعليمية لم تعد تفي بالغرض إذا اقتصرت على نقل المعرفة، بل يجب أن تتحول إلى أدوات لبناء الإنسان المتعلم مدى الحياة، القادر على مواكبة التحولات التكنولوجية والبيئية والاقتصادية، والمشارك الفعّال في صياغة المستقبل. وقد عززت هذه الرؤية بيانات صادرة عن البنك الدولي، أشارت إلى أن 53% من طلاب العالم ممن هم في سن العاشرة لا يستطيعون قراءة نص بسيط وفهم معناه، رغم سنوات من الدراسة النظامية. هذه النسبة الصادمة ليست انعكاسًا لضعف الذكاء، بل لضعف صلة المقررات الدراسية بالحياة، ولانفصال المحتوى عن حاجات المتعلم النفسية والمعرفية.
أما تقرير “المهارات المستقبلية” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، فقد خلص إلى أن 44% من المهارات المطلوبة في سوق العمل العالمي ستتغير بحلول عام 2030، وأن المهارات الأكثر طلبًا لم تعد الحفظ أو الحساب اليدوي، بل مهارات مثل التفكير النقدي، والابتكار، والعمل الجماعي في بيئات متعددة الثقافات. ومع ذلك، ما تزال المقررات الدراسية في كثير من الأنظمة التعليمية تقدم المعارف كما كانت تُقدَّم قبل ثلاثة عقود، بلغة جامدة، وترتيب لا يعبّر عن عالم متشابك ومعقد.
ومن هنا تأتي الإشارة إلى أن هناك تجارب دولية بارزة أظهرت أن تطوير المقررات يمكن أن يغيّر صورة التعليم جذريًا. ففي فنلندا لم تعد الفيزياء تُدرَّس وحدها، ولا الجغرافيا منعزلة، بل بات الطلبة يتعلمون مفاهيم البيئة من خلال مشروع بحثي يستلزم فهم المناخ، والتضاريس، والطاقة المتجددة، والبعد الأخلاقي للعلم. هذا التداخل البنّاء جعل نسبة رضا الطلبة والمعلمين ترتفع إلى أكثر من 85% وفق تقارير وزارة التعليم الفنلندية، كما انعكس في نتائجهم العالية في اختبارات القراءة والرياضيات والعلوم ضمن تقييم .PISA
وفي سنغافورة أدخلت وزارة التعليم منذ عام 2018 مقررات خاصة لتعليم مبادئ الذكاء الاصطناعي والتفكير البرمجي، ليس بوصفها مواد منفصلة، بل كجزء من مشروع تعلّمي ممتد، يتعامل فيه الطالب مع تحديات حياتية ويقترح حلولًا رقمية لها. النتيجة أن نسبة الخريجين الجاهزين للوظائف المستقبلية ارتفعت بنسبة 30% خلال خمس سنوات فقط، بحسب تقرير معهد سنغافورة للتعليم التقني.
تلك التجارب أثبتت أن المقررات الدراسية ليست أوراقًا تُدرس، بل منظومات ثقافية ومعرفية وقيمية تشكّل وعي الجيل. والتحدي ليس في إضافة وحدة دراسية عن البرمجة أو البيئة، بل في إعادة تشكيل المنهج ليكون مرآة للعصر، ومعبرًا للغد، وأداة لنمو التفكير.
لقد أظهرت نتائج تقييم TIMSS الدولية أن الطلبة الذين يتعلمون وفق مناهج تربط بين المحتوى والمهارات الحياتية يتفوقون في الفهم العميق والتطبيق العملي، حتى إن قلّ عدد ساعات التدريس المخصصة. وهذا يشير إلى أن الكفاءة في المقرر، لا كثافته، هي مفتاح الفعالية.
وخلاصة القول؛ إن استشراف مستقبل التعليم يبدأ من إعادة التخيل بحيث يتم التركيز على أن التعليم وطرق التدريس والمناهج تتغير بشكل متسارع ومتطور جدًا.




